“ليست القدرة على التنبؤ بالمستقبل موهبة قد تملكها أو لا تملكها، بل مهارة يمكن تطويرها، وهذا الكتاب سيريك كيف تحقق ذلك”
كتاب التنبؤ الفائق
الجميع يمارس التنبؤ في حياته، في محاولة لكشف خبايا المستقبل وما ستؤول إليه الأمور بعد فترة زمنية ما، فيغير أحدهم وظيفته، ويشتري الآخر عقارا، بينما يقرر ثالث أن يخطو أولى خطواته في عالم الاستثمار، وتقرر شركة إطلاق منتج، وتوقف أخرى خط إنتاج كامل، وبالطبع تصبح الأمور أكثر أهمية إذا اتصلت بأحداث ضخمة التأثير كقرار الدول شن الحروب.
يبدو الأمر أشبه باللعبة، وكلما اقتربت من المستقبل كانت تخميناتك أكثر صحة، فتنبؤك بما سيحدث غدا، أسهل مما ستحاول تخمينه من أحداث السنة المقبلة، لكن بعض الأشخاص فائقون في تنبؤاتهم، ذوو مهارة تنبؤ تزداد قوة مع الوقت. في كتابهما “التنبؤ الفائق: فن وعلم التنبؤ”، يناقش الكاتبان “فيليب تيتلوك” و” دان غاردنر” -الكاتبان في نطاق التحليل السياسي- كيف ينجح هؤلاء الأشخاص في تطوير هذه المهارة.
بحسب رأيهما، لا يشترط أن يكون الشخص ذا معرفة عالية أو ذكاء مُتقِّد، بل إن هناك متخصصين ربما يقومون بتنبؤات خاطئة، وينتج هذا بسبب تحيز الشخص المتخصص لما يعرفه، أي أنه يبحث عن الأسباب التي تؤكد صحة موقفه وخطأ الرأي الآخر، فيتخذ بناء على ذلك قرارات قد تكون خاطئة، ومن ثَم، يؤكد الكاتبان أن هناك ما هو أهم من الذكاء، وهو الاستمتاع بالتحديات المعرفية التي يمارس حلها المتنبئون الفائقون، ويقدمان 10 وصايا كدليل يمكنه مساعدة أي شخص في تطوير مهارة التنبؤ الفائق.
الوصية الأولى: اختيار الأسئلة المناسبة للتنبؤ
ينصح الدليل الخاص بـ”غاردنر” و”تيلوك” بأن يركز الشخص على الأسئلة التي سيؤتي فيها الجهد والتركيز ثماره، والابتعاد عن الأسئلة التي يستحيل التنبؤ بإجابتها، أو التي ستقدم فيها النماذج الإحصائية إجابة دقيقة وواضحة، فالشخص قد يتنبأ بما هو واضح أصلا، أي بما يسهل التنبؤ به باستخدام اللوغاريثمات والنماذج الإحصائية، أو قد يضيع وقته في محاولة التنبؤ بما يصعب التنبؤ به، وتختلف الآثار السلبية لهذا الفعل بحسب الوضع الذي يحيط بالشخص والقرارات التي اتخذها بناء على هذا التنبؤ.
على سبيل المثال، إذا كانت الأسئلة المطروحة: من سيفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2024؟ أو من سيفوز بكأس العالم هذا العام 2022؟ ربما لا يمكن تقديم إجابة محددة ودقيقة، لكن يمكن حصر خيارات الفوز المحتملة للشخصيات السياسية والفرق الرياضية بناء على طبيعة المشهد الراهن وتحليل الأوضاع الحالية، لكن ماذا إن تغير السؤالان إلى: من سيفوز في الانتخابات الرئاسية عام 2040؟ أو من سيفوز في كأس العالم عام 2038؟ أنت تنتقل هنا إلى مرحلة ضبابية باحتمالات كبيرة ومفتوحة على كل الخيارات، فقد لا تحدث انتخابات رئاسية أميركية في هذا العام، أو قد يخرج الحكم من قبضة السياسيين إلى الجيش، وكذلك الأمر بالنسبة إلى كأس العالم.
إضافة إلى ذلك، يوضح الكاتبان أن هناك أمورا تظل الإجابة عن الأسئلة المطروحة حولها غير واضحة أو غير قابلة للتنبؤ، كأسعار الغاز أو أسواق العملات، وربما يتضح هذا من الارتفاع الأخير في الأسعار الناتج عن التطورات السياسية بين أوكرانيا وروسيا، وكيف أحدثت موجة تضخم عالمي تشهد بسببها دول كالمملكة المتحدة إضرابات عمالية في قطاعات مختلفة منها قطاع النقل والمواصلات، وهو أمر لم يكن من الممكن التنبؤ به نهاية عام 2021.
الوصية الثانية: تجزئة المشكلة المستعصية إلى مشكلات صغيرة يسهل تحليلها
ينصح الكاتبان بأن يحاول الشخص تفكيك المشكلة المستعصية التي يصعب التنبؤ بشأنها إلى أجزاء يمكن التعامل معها، وهو ما ينتج جوانب معروفة وأخرى مجهولة، وعلى الشخص أن يواجه جهله ببعض الأجزاء، ليتمكن من بناء افتراضات وتخمينات، وتحديد نوع الأخطاء المتوقعة، والتعامل مع التحيزات التي قد يرتكبها.
تُطرح شخصية “إنريكو فيرمي” -مصمم أول مفاعل ذري- بوصفها مثالا توضيحيا، كان “فيرمي” يحب بذل المحاولة في الإجابة عن أسئلة تعتبر صعبة أو مستعصية، كسؤال: كم عدد الحضارات التي عاشت في هذا الكون؟ وكان يتبع منهجا للإجابة عن هذا النوع من الأسئلة، تبدأ أولى الخطوات بتجزئة المشكلة أو فكرة السؤال إلى فروع صغيرة، وتصنيفها إلى معلومات معروفة وأخرى غير معروفة، أنت بذلك تدرك ما تعرفه وما لا تعرفه، أي تواجه جهلك، ثم تنتقل إلى مرحلة بناء الافتراضات وتحليلها واختبارها، لتكتشف الأخطاء التي ارتكبتها عند التنبؤ بالإجابة.
أطلق الكاتبان على هذا المنهج لقب “روح الفيرمية” نسبة إلى إنريكو فيرمي، واعتبراه ناجحا وقابلا للتطبيق حتى مع الأسئلة التي لا تتطلب إجابات كمية، كالسعي وراء الحب، ويوضحان بمثال: إذا كان هناك شاب يرغب بتخمين عدد النساء اللواتي يمكن أن تتاح له فرصة الوقوع في حب إحداهن في مدينته لندن، فيبدأ بعدد سكان لندن مفترضا أنه 6 ملايين في ذلك الوقت، ثم بحساب نسبة الإناث التي تعادل النصف، ثم نسبة الآنسات منهن، ثم نسبة الآنسات في العمر المناسب له، ثم نسبة خريجات الجامعة، ثم نسبة من سينجذب إليهن ومن سينجذبن إليه، ونسبة من سيحدث بينه وبينهن توافق، ليصل العدد وفق حساباتهما إلى 26 فتاة، يعتقدان أن العثور على إحداهن مهمة شاقة لكنها غير مستحيلة، وقد ساعد منهج “فيرمي” في تخمين هذا الرقم، لكنهما يعتقدان أيضا أنه لا يمكن الجزم بصحة هذه الإجابة، لكن الافتراضات قد تكون أكثر دقة في مواضيع أخرى كالأسئلة حول الأوبئة.
يتجه أصحاب مهارة التنبؤ الفائق لاتباع هذا المنهج ليكونوا تحليليين ومنظمين، فإذا طُرح سؤال حول إمكانية حدوث حرب في كوريا الشمالية، سيحللون المشهد من زاوية سياسية، ليتجزأ السؤال إلى أسئلة فرعية، مثل: ما احتمالية أن كوريا الشمالية ستتخذ موقفا كهذا؟ وكيف سترد الولايات المتحدة؟ وما هو الموقف المُحتمل للصين؟ ثم سيحسبون قيمة احتمال كل عامل أو إجابة للأسئلة السابقة، وهذا يعكس منهجا تحليليا عميقا وشديد التنظيم يحلل كل المتغيرات والعوامل المؤثرة في الوضع المدروس، ويختلف عن بعض التنبؤات الشائعة والتي تكون في صورة إجابات روائية سطحية.
الوصية الثالثة: الموازنة بين الحقائق المعروفة والاستثناءات
يفسر الكاتبان هذه الوصية بالتأكيد على أهمية خلق المقارنات بين الأحداث، واستحالة وجود التفرد لأي حدث، أي مهما اعتبر الحدث جديدا فلا بد من أن توجد فيه بعض الملامح التي يمكن مقارنتها وربطها بأحداث أخرى سابقة، ومن ثم يستطيع المتنبئون الفائقون بناء الافتراضات، ويقومون بتغيير افتراضاتهم إن اكتشفوا حدوث شيء جديد يتعلق بالحالة التي يدرسونها لتحسين الافتراضات التي بنوها سابقا، مستخدمين السؤال: “كم مرة يمكن أن تتكرر أمور من هذا النوع في أوضاع من هذا النوع؟”.
سنطرح هنا مثالين، الأول للكاتبين يناقشان به فرضية “لاري سمرز” -الأستاذ بجامعة هارفارد- حول الوقت الذي يستغرقه الموظفون لإنهاء مشروع ما، يعلم “سمرز” أن هناك نوعا من المغالطات المنطقية يُعرَف بمغالطة التخطيط(1)، وبسببها يبالغ البشر في تقدير الوقت الذي يملكونه لأداء مهمة ويستهينون بالوقت الحقيقي اللازم لأدائها؛ ما يوقع الموظفين في خطأ تقدير الوقت الذي يلزمهم لإنهاء المهام، واعتبر “سمرز” أن مقدار الفرق بين الوقت اللازم لإنهاء المشروع والوقت الذي يخمنه الموظفون هو ما يعادل الضعف أو ثلاثة أضعاف، وقد تبع خطاه الاقتصادي الشهير “غريغ مانكيو”، فاعتبر أن عليه أن يضاعف الوقت الذي يفترضه الموظفون عدة مرات، فإذا افترضوا أنهم يحتاجون إلى أسبوعين لإنهاء مهمة ما، فسيعتبر أنها ستتطلب 4 أشهر.
لكن إن ظهر بين فريق العمل موظف نشيط ملتزم بالوقت الذي افترضه، فعلى “سمرز” حينها أن يوازن بين ما يعرفه عن مغالطة التخطيط وما يحدث في فريقه، ليغير المعادلة التي يستخدمها لافتراض الوقت اللازم لإنهاء المشاريع.
ربما تعتبر أن المعطيات هنا واضحة تماما، وأن هناك أحداثا يظل من الصعب إيجاد أوجه للمقارنة بينها وبين غيرها، لذا دعنا نسلط الضوء على وباء كوفيد-19. يعلم الجميع أن الوباء اتسم بالضبابية في بداياته، لكونه اعتُبر نوعا جديدا من الأوبئة التي لم يسبق أن تعامل البشر معها، على حد علمنا، لكن مجموعة من المتنبئين فائقي القدرة استخلصوا بعض أوجه التشابه بين هذا الوباء ووباء الإنفلونزا الإسبانية الذي انتشر عام 1918، وكان من بين تنبؤاتهم أن الوباء الجديد “كورونا” سيستمر لسنتين على الأقل، ثم بعد مرور فترة زمنية وتوفر المزيد من المعلومات حول الوباء الجديد والتي بددت جزءا من ضبابيته، غيّروا تنبؤاتهم إلى أن مدة بقاء الوباء ستزيد عن سنتين لكونه يتطور ليشبه في استمراريته الإنفلونزا العادية.
الوصية الرابعة: تقييم الأدلة ومراجعة المعتقدات
تركّز هذه الوصية على تحديث المعتقدات التي يبنيها الشخص تجاه حدث ما، ويعني ذلك المراجعة المستمرة للمعتقدات الموجودة حول موضوع ما، عبر اكتشاف الإشارات الصحيحة، وتجنب بناء التوقعات بناء على إشارات أو أدلة خاطئة. لنأخذ على سبيل المثال الوضع الروسي-الأوكراني قبل اندلاع الحرب بفترة زمنية قصيرة، حيث تمكن المتنبئون الأذكياء في تلك الفترة من رصد الإشارات التي تؤكد لهم احتمالية حدوث الحرب، ربما تكون المقالات الصحفية الصادرة عن أحد الجانبين قد حملت بعض هذه الإشارات، وهي إشارات صحيحة لأن الحرب تبعتها. لكن إذا افترضنا أن مقالا صحفيا صدر منذ أعوام وحمل بعض هذه الإشارات لكن الحرب لم تندلع حينها، ساعتها سيعلم المتنبئ أنها كانت أدلة وإشارات خاطئة لأن الحرب لم تحدث في ذلك الوقت، وأنها إشارات مبنية على حكم أو تحيز شخصي للصحفي صاحب المقالة.
سيتعلم المتنبئ الفائق من هذا الحدث تمييز نوعية الإشارات الخاطئة، أو أهمية عدم المسارعة في بناء الافتراضات، وربما سيغير معتقده عن تلك المنصة ويقلل من اعتماده على مقالاتها في بناء افتراضاته ويضيف إلى قاعدة بياناته منصات أخرى أو كُتّابا آخرين، ليزيد من صحة افتراضاته في المرة القادمة عن الموضوع نفسه. يرى الكاتبان أن هذه المهارة تتطلب مراقبة مستمرة ذاتية، وتقييما دوريا ليتأكد الشخص من تطويرها، وتطوير قدرته على استخدامها في بناء الافتراضات الممكنة، وهذا سيمكنه من بناء افتراضات شبه مؤكدة أو حتى مؤكدة إذا استمر في صقل هذه المهارة.
الوصية الخامسة: النظر إلى وجهات النظر المخالفة
ينصح الكاتبان المتنبئين الفائقين بطرح كل وجهات النظر على الطاولة عند تحليل قضية ما، وإيجاد توليفة تجمع الآراء كافة وتأخذ منها ما هو قابل للتطبيق بحسب الظرف والحالة المدروسة. فمثلا إذا كان الشخص من المؤيدين لسياسات معينة، ومقتنعا بنتائج هذا النوع من السياسات، كسياسة العقوبة المالية ضد مرتكبي نوع ما من الأفعال، بينما هناك من يعارضه ويرفض اتباع هذه العقوبة لاعتقاده بإحداثها الضرر على مرتكب الفعل وهو ضرر لا يستحقه مقارنة بما فعل، ويرى أنه يمكن استبدالها بعقوبة أخف كأداء مهام مجتمعية، يرى الكاتبان أنه لا يمكن تعميم وجهة نظر أي من الطرفين واتباعها في كل المواقف والأحداث، فهناك أحداث قد تكون السياسات الصارمة فيها الحل الأمثل، أو العكس، رغم تشابه الأحداث في نوع الفعل المرتكب مثلا.
لذا يُنصح دائمة بطرح جميع الأفكار ومناقشتها في ضوء الوضع الذي يتم التعامل معه. وينجح المتنبئون الأذكياء في ممارسة ذلك، وتوظيف حتى في وجهات النظر المخالفة لهم لبناء توقعات دقيقة، وربما إيجاد نقاط الالتقاء مع الفرق الأخرى، بهدف الوصول إلى الحقيقة لا بهدف إثبات خطأ الطرف الآخر، ويدفعهم هذا إلى تحديث أفكارهم الحالية لتجمع وجهات نظر مختلفة لكنها متوازنة وأكثر عمقا وقابلية للتطبيق.
الوصية السادسة: تحديد درجات الشك
كلما استطاع الشخص تمييز جوانب الشك في موضوع ما، تطورت قدرته على التنبؤ، فالأشياء التي يمكن تصنيفها إلى مؤكدة أو مستحيلة الحدوث عددها قليل، وهذا يتطلب الصبر وتكرار الممارسة لتطوير هذه القدرة، وهذا الأمر يعتمد على أهمية الحدث.
يوضح الكاتبان هذه الوصية بمثال عن الرئيس الأميركي السابق أوباما، كيف ستكون ردة فعله تجاه ما يقترحه عليه المحيطون به من احتمالية وجود “بن لادن” في مكان ما في إحدى المدن الأفغانية، أو احتمالية فوز فريق ما في إحدى الفعاليات الرياضية، هل ستكون ردة فعله تجاه كلا الموقفين واحدة؟ من المؤكد أنه تعامل بصرامة فيما يخص احتمالية وجود بن لادن في ذلك المكان، لكنه كان أكثر لينا فيما يخص الحدث الرياضي، أي أنه سيدرس الاحتمالات بطريقة مختلفة بحسب اختلاف قيمة الحدث. ففي الحالة الأولى، من المرجح أنه سيشكك في احتمالية وجود “بن لادن” في ذلك المكان الذي أشار إليه فريقه طالبا المزيد من الأدلة، وهذه القدرة على خلق الشك وتحديد نتائجه تطور قدرة الأشخاص على التنبؤ الذكي.
الوصية السابعة: الموازنة بين الاحتمال واليقين
رغم أن الناس يميلون لتصديق المتنبئين الذين يتحدثون بثقة أعلى، فإن المتنبئين الفائقين يوازنون بين المواقف التي تحتاج إلى تنبؤات احتمالية، وبين التي تحتاج مواقف حازمة، أي أنهم يتجنبون أن يكونوا واثقين في تنبؤاتهم بشكل مبالغ فيه إذا كانت الأمور ضبابية، وفي المقابل فإنهم يكونون أكثر حزما إذا كان التنبؤ مبنيا على أدلة قوية تجعله أقرب إلى اليقين.
الوصية الثامنة: التعلم من التجارب السابقة الناجحة والفاشلة
لا تحاول تبرير فشلك أو خلق الأعذار لنفسك، عليك أن تعترف بخطئك إن كنت ترغب في تطوير مهارة التنبؤ، وينصح الكاتبان لتحقيق ذلك بتحليل الموقف أو التجربة بدقة بعد المرور بها، للتعلم منها والاستفادة مستقبلا.
يوضح الكاتبان أن الأشخاص يخطئون في تحليلهم لفشلهم، فلا يتعلمون منه الكثير بسبب تغاضيهم عن فشلهم وإخفاقاتهم في بناء الافتراضات، بالرغم من أنهم قد يكونون قد نهجوا نهجا صحيحا في محاولة بناء التنبؤات، لكنهم ارتكبوا أخطاء بسيطة تسببت في إخفاقات كبيرة. إذا كانوا صريحين حول فشلهم، ونجحوا في اكتشاف هذه الأخطاء، فسيطورون قدرتهم التنبؤية.
لكنهما أيضا يؤكدان على أهمية دراسة قصص النجاح بالدرجة نفسها من الدقة، فربما قد حدث هذا النجاح بسبب خطأ ارتكبه الشخص خلال التنبؤ، فليست كل النجاحات تعني أن طريقة الشخص في بناء الروابط وتحليل الأحداث وتتبع السببية كانت صحيحة، كما أن تجاهل تحليل النجاح قد يؤدي مع تراكم التجربة إلى انحراف هذه المهارة عن مسارها الصحيح وربما اتخاذ قرارات تنبؤية فادحة.
الوصية التاسعة: إتقان فن إدارة الفريق
يأتي إتقان هذا الفن من خلال فهم حجج الطرف الآخر، وبمساعدة الآخرين في توضيح حججهم لتفادي إساءة فهمها من قبل غيرهم، وتعلم إبداء الاختلاف دون تنفير الآخرين. يشبه الأمر إمساك عصفور بيدك، إذا أحكمت قبضتك فستقتله، وإذا أرخيتها كثيرا فستفقده، وهنا يتم تعزيز التفكير الجمعي، حيث يتم جمع الآراء والآراء المضادة والاحتمالية لكل رأي، ودفع جميع أفراد الفريق لطرح أفكارهم وتنبؤاتهم، ومحاولة دفع أصحاب رأي معين للمحاججة عن الرأي المخالف لهم حتى لو لم يوافقوا عليه، أي جعلهم يحاولون تبني هذا الرأي لمعرفة كيف يمكنهم الدفاع عنه، وإلى أي الأفكار سيتوصلون عند تطبيق ذلك، وبذلك سيتحول الفريق إلى فريق يفكر كل فرد أو طرف فيه في الرأي الآخر. وهذا كله يتطلب وجود قائد يدير هذا النوع من النقاش والحوار بين الأطراف ويستقبل المعلومات التي يقدمها أفراد الفريق مع بقائه على الحياد، لأن تحيزه لطرف ما سيعني محاولته توجيه النقاش لما يوافق رأيه.
الوصية العاشرة: الممارسة العميقة والمستمرة
لن يكفي تعلم الوصايا العشر لإتقان التنبؤ، تماما كأي مهارة قد يتعلمها الشخص. لن تكفي قراءة أدلة تعليمية حول التحضير لاختبار الآيلتس للنجاح فيه ما لم يتمرن الشخص على ذلك، وكذلك الحال بالنسبة إلى قيادة السيارة أو الطائرة، أو الخطابة، أو أي مهنة أو مهارة يسعى الإنسان لإتقانها. لن يتحقق الإتقان بدون الممارسة المستمرة، وليست الممارسة وحدها كافية، بل عليه أن يرفق ذلك بتحليل تجربته نجاحا وفشلا، واستخلاص الدروس، وتطبيق ما تعلمه في كل تنبؤ جديد، سيجرب مرات عدة، وسيفشل وربما ينجح، وسيحلل، وسيعدل من طريقته، وسيحاول مرة أخرى، وشيئا فشيئا ستتراكم النجاحات مولّدة مهارة قوية.
سيكون تغيير الرأي وتحديث المعتقدات التي يملكها الشخص صعبا، فهناك وصمة مجتمعية بأن الشخص الذي يغير رأيه ذو تفكير غير مستقر وثقة منخفضة فيما يعتقده، وهذا ينعكس على رؤية المجتمع لمصداقية هذا الشخص، لذا يحاول الكثير من الأشخاص الثبات على آرائهم لأنهم يريدون الظهور ثابتين في تفكيرهم، حتى لو توفرت لهم أدلة لاحقا على خطأ مواقفهم. لكن المتنبئين الفائقين سريعون جدا في تغيير آرائهم عند ظهور معلومات جديدة تتطلب ذلك، فيحللون الوضع باستمرار، ويُقيّمون المعلومات الواردة، ويُحدّثون آراءهم، ويستمرون في ممارسة هذا الفعل لتطوير مهارتهم التنبؤية.
يضيف الكاتبان أخيرا أنه ليس على أي شخص أن يتعامل مع هذه الوصايا على أنها وصفة سحرية تضمن له تطوير مهارة التنبؤ الفائق، وأن على الأشخاص أن يُعمِلوا عقولهم عند اتباعها. وتماما كما دعوا في البداية إلى وضع أي معلومة تحت مجهر التحليل، فإنهما يدعوان القراء لتطبيق ذلك على ما ينصحان به أولا قبل أي شيء.