محمد مفضل
أبانت الحملة التي نظمها ناشطون سياسيون على صفحات الفيسبوك ضد تقاعد البرلمانيين و الوزراء عن ظاهرة إعلامية و سياسية جديدة في المشهد السياسي المغربي و التي يمكن تحليلها من خلال مراجعة لنظرية في العلوم السياسية متعلقة بصناعة الرأي العام و التي تسمى نظرية “لولب الصمت”.
قامت باحثة علم الاجتماع الألمانية اليزابيث نويل نيومان بالتأسيس لنظرية رائدة تتعلق بصناعة الرأي العام و سمتها “لولب الصمت”. تؤسس هذه النظرية لطريقة صناعة الرأي العام في المجتمع من خلال ملاحظة الفرد لمحيطه الاجتماعي.
حسب هذه الخطاطة النظرية، يحاول الفرد من خلال آلية شبه إحصائية بداخله ملاحظة المحيط الاجتماعي و ذلك بتقييمه لتوزيع الآراء بهذا المحيط و بمعرفة ما إذا كانت هذه الآراء مع أو ضد الأفكار التي يحملها، و يعمل كذلك على تقييم قوة و إمكانية نجاح هذه الآراء في تحقيق تداول عام. بتقييمه للآراء المتضاربة في المحيط الاجتماعي، يتخذ الفرد قرارا يحدد موقفه من هذه الآراء و بالتالي الموقف الفردي الذي سيتبناه.
و حسب هذه النظرية فغالبا ما يتبنى الفرد الرأي السائد و المدعوم من طرف النخبة الحاكمة و وسائل الإعلام التي تروج له، خوفا من العزلة و الانتقام.
و نتيجة لذلك يصبح الفرد مترددا و خائفا من إبداء رأيه، خصوصا إذا كان رأيه يخالف الرأي العام السائد، و يلجأ إلى الصمت لحماية نفسه.
لم تغفل هذه النظرية إمكانية وجود أشخاص يتحدون الرأي العام السائد و يعبرون عن رأيهم رغم كل المضايقات، و سمتهم ب”النواة الصلبة”. كما أسست هذه النظرية لخطاطة فكرية تحدد الشروط السياسية التي تجعل وسائل الإعلام تلعب دورا أساسيا في صناعة الرأي العام، و الذي يكون غالبا، و خصوصا في الدول النامية و السلطوية، تعبيرا عن رأي أقلية تمسك بدواليب الحكم، أي النخبة الحاكمة، و قد حددت هذه النظرية ثلاثة شروط أساسية لكي تتمكن وسائل الإعلام من المساهمة بكل فعالية في صناعة الرأي العام:
-التناغم بين المحتوى الإعلامي و القيم أو المصالح التي تدافع عنها وسائل الإعلام.
– التراكم و يعني ذلك تكرار هذا المحتوى لمدة طويلة و عبر مختلف الوسائل –المكتوبة و السمعية البصرية.
– الحضور التام كمصدر للمعلومة، أي احتكار توزيع المعلومة التي تصف الواقع السياسي و الاجتماعي.
تحت هذه الظروف تستطيع وسائل الإعلام توجيه التوزيع الفعلي للمعلومة لصالح النخبة الحاكمة و ذلك بجعل رأي هذه الأقلية الحاكمة رأيا عاما و مقبولا لدى الجماهير، وبالتالي فكل من له رأي مخالف يصبح ملزما بالتزام الصمت لحماية نفسه من انتقام هذه النخبة، باستثناء طبعا النواة الصلبة التي تعترض علانية على صلاحية هذا الرأي العام في تمثيل رأي الأغلبية.
ما حدث منذ 2011، و الذي عرف بما يسمى ربيعا عربيا، شجع رواد مواقع التواصل الاجتماعي على التعبير عن رأيهم في حدود تختلف حسب الظروف، و قلص من دور وسائل الإعلام الرسمية في صناعة رأي عام يتماشى مع رأي الأقلية الحاكمة. و قد عرف دور مواقع التواصل الاجتماعي و خصوصا الفيسبوك، و الذي يعتبر الأكثر استعمالا في المغرب، تزايدا ملحوظا من حيث الأهمية و التأثير، حيث بلغ عدد رواده في سنة 2014 خمسة ملايين. مع الزيادة في التوظيف السياسي لهذا الموقع بدأ لولب الصمت يميل لصالح الناشطين السياسيين المعارضين للسلوك السياسي لبعض أعضاء هذه النخبة، حيث أصبح الرأي الذي يروج له على صفحات الفيسبوك أكثر تأثيرا في صناعة الرأي العام الذي أصبح أكثر توازنا عن ذي قبل.
ما يؤكد هذا الطرح هو ما حدث فعلا في الفترة القصيرة السابقة، عندما بدأ نقاش جدي حول إصلاح صندوق التقاعد، و بدأت في الظهور مطالبات شعبية بإلغاء تقاعد البرلمانيين و الوزراء على اعتبار كونه ريعا سياسيا لا يتماشى مع المرحلة الراهنة حيث الصعوبات و الإكراهات أصبحت حقيقة في هذا الملف الشائك. كما أن المواطن الفرد أصبح أكثر تعبيرا عن استنكاره لاستمرار هذا الريع السياسي في الوقت الذي يبحث فيه الوزير الأول على إصلاح صندوق التقاعد فقط على حساب المواطن العادي.
ما يحدث فعلا من الناحية الإعلامية و صناعة القرار يشير إلى تحول جذري في آلية التفسير النظرية الأصلية و أصبح الوزراء و النواب غير قادرين على التعبير عن رأيهم في هذا الموضوع، خوفا من العزلة السياسية التي تحدثها الحملات الفيسبوكية ضد من يتجرأ على رفض المقترح الشعبي بإلغاء تقاعد الوزراء و النواب. و ما حدث فعلا للوزيرة أفيلال و الحيطي يشهد على ذلك.
إن قلب الوضع السياسي للولب الصمت يعبر عن تغير في صناعة الرأي العام خصوصا فيما يتعلق بالقضايا الحساسة التي يتم حلها على حساب المواطن العادي. إن مساهمة الفيسبوك كموقع للتواصل الاجتماعي و السياسي في تغيير آليات صناعة الرأي العام تبقى جوهرية و تعطي لهذا الموقع سلطة خامسة تمارس تأثيرها بشكل واضح على المشهد السياسي المغربي.
يتوفر الفيسبوك على كل شروط التأثير في الرأي العام سواء من حيث التناغم مع القيم الشعبية، أو الحضور المستمر و التراكم الناتج عن آليات الإعجاب و المشاركة و التداول الواسع. يقلب الفيسبوك إذن الموازين لصالح نخبة سياسية أكثر نشاطا و أكثر استعدادا لممارسة دور الردع و العقاب في حق من كانوا يوما يمارسون ذلك ضد غالبية السكان. لكن يبقى السؤال مطروحا فيما يتعلق بتقبل النخبة السياسية لهذا القلب في لولب الصمت و حول ما إذا كانت سترضخ لإرادة نواة صلبة تزداد قوة يوما بعد يوم.