“كنوز المغرب الديناصورية”.. كيف غيّرت تاريخ علم الحفريات للأبد؟

نواحي  من مدينة أرفود، إحدى أهم المدن السياحية  بالمغرب، وفي منطقة صحراوية قاحلة شديدة الحرارة، هناك حيث تهب الرياح ساخنة كأنك قد فتحت باب فرن منزلي أمام وجهك لوهلة، تقف بضع سيارات دفع رباعي إلى جانب صخرة ضخمة، على مقربة من مجموعة من الباحثين المنهمكين في العمل على بعض صخور تل قريب، يبدو من حركة أيديهم أنهم شديدو الحرص على ما يقع قبالة أعينهم، وكأنهم قد وجدوا كنزا ثمينا.(1،2)

نزار إبراهيم، الأستاذ المساعد بقسم البيولوجيا في جامعة ديترويت والمستكشف مع مؤسسة ناشونال جيوجرافيك العالمية

 يقول الدكتور نزار إبراهيم، الأستاذ المساعد بقسم البيولوجيا في جامعة ديترويت والمستكشف مع مؤسسة ناشونال جيوجرافيك العالمية: “كان ما اكتشفناه في تلك المنطقة هو قطعة تشريحية فريدة من نوعها، لم يسبق رؤيتها في أي ديناصور آخر من قبل”.

تمكّن نزار وفريقه البحثي من استخراج قطعة بعد قطعة من ذيل ديناصور نعرفه باسم “السبينوصور المصري” (Spinosaurus aegyptiacus)، كانت جميعها تحوي شوكات عظمية علوية وصفها نزار بأنها “مجنونة الطول”. يعني ذلك أن ذيل السبينوصور كان عريضا يشبه الزعنفة، ليس مدببا مثل ذيل رفاقه من الثيروبودات كالتيرانوصور (T-Rex). يُضيف هذا الكشف الجديد المزيد من التأكيدات إلى فرضية كانت مركز جدل بحثي شديد خلال عقود عدّة تقول إن السبينوصورات كانت أول ديناصورات نعرف أنها سبحت في المياه، وربما عاشت فيها بشكل كامل، نشرت نتائج هذا الكشف قبل أيام في الدورية واسعة الشهرة “نيتشر”، وسط احتفاء بحثي عالمي.

ملك شمال أفريقيا

بطول نحو خمسة عشر مترا وارتفاع خمسة أمتار، يُعَدُّ السبينوصور أضخم الديناصورات المفترسة التي عاشت على سطح الأرض، رأسه طويل ومدبب يشبه رأس التمساح، لكنه أضخم بفارق كبير حيث يمكن لك أن تضع جسم إنسان كامل في فمه، ويحمل على ظهره شراعا عظميا مهيبا، كل ذلك في ماكينة قتل تزن سبعة أطنان.

مع أسنان حادة وضخمة ومخروطية مرعبة، فإن وحشا بهذه المواصفات لا بد أنه كان ليجد طريقه مباشرة إلى السينما العالمية، رغم ذلك فإن الأشهر في أفلام الرعب الجوراسي عادة هو التيرانوصور، ذلك لأن صديقنا الذي تربّع على قمة السلسلة الغذائية في شمال أفريقيا قبل مئة مليون سنة في العصر الطباشيري، حينما كانت تلك المنطقة جنة خضراء يشقّها بحر ضخم من الشمال إلى الجنوب، كان أكثر الديناصورات غموضا طوال قرن مضى.

تصميم تخيّلي لاثنين من السبينوصورات أثناء مطاردتهما لإحدى الفرائس، من صناعة جيسون تريت وميسا شوماخر ورسم ديفيد بانودونا

يقول نزار “الهيكل العظمي الذي لدينا للسبينوصور هو الوحيد الموجود في العالم اليوم”، مضيفا أنه من الصعب جدا العثور على مثل هذه الهياكل العظمية في هذا الجزء من الصحراء، بسبب بعض العوامل الجيولوجية، بالإضافة إلى الصعوبات اللوجستية التي تجعل العمل في تلك المنطقة من الصحراء أمرا خطيرا، أما بالنسبة للتيرانوصور فإن هياكله العظمية قد وُجدت في أماكن كثيرة تحفظ العينات جيدا، لهذا السبب فإنها أكثر شيوعا.

سبينوصور كمكم

تبدأ حكاية السبينوصور قبل أكثر من مئة سنة من الآن، حينما قرّر أرنست سترومر، عالم الحفريات الألماني الأرستقراطي غريب الأطوار، أن يبحث عن الحفريات في أماكن غير مألوفة، فهَمّ بالسفر إلى الواحات البحرية المصرية، وبعد عدة بعثات تمكّن من التوصل إلى مجموعة من الديناصورات التي عاشت قديما في تلك المنطقة، كان أكثرها لفتا لانتباه الجمهور هو السبينوصور ذا الشراع المهيب وفك التماسيح ذا الأسنان الحادة.

أرنست سترومر سنة 1914 مع عظام أحد الديناصورات الضخمة

يقول نزار : “حفظ سترومر الحفريات التي حصل عليها في متحف ميونخ للتاريخ الطبيعي، لكنها جميعا تدمّرت في غارة جوية شنّتها قوات الحلفاء على مدينة ميونيخ الألمانية في الحرب العالمية”، موضحا أنه منذ تلك الفترة كانت السبينوصورات سرا كبيرا في هذا النطاق البحثي، لكن خلال العقد الأول من القرن الحالي كان نزار قد عقد العزم على استكمال رحلة سترومر والبحث خلف طبيعة هذا الكائن في منطقة “كمكم” المغربية، وهي تشكيل حجري شبه صحراوي يقع جنوب شرق المغرب على الحدود مع الجزائر، أرفود أحد أجزائها.

تمكّن نزار بالفعل في العام 2014 من التوصل إلى أدق صورة ممكنة للسبينوصورات، بعد اكتشاف أجزاء متنوعة من هياكلها لم يسبق لسترومر نفسه الحصول عليها. من خلال اكتشافاته، ظهر أن السبينوصورات هي كائنات يمكن أن تمشي على قدمين خلفيتين، لكنها تستند جزئيا إلى مفاصل القدمين الأماميتين مثلما تفعل الغوريلات، تحتوي على فتحات صغيرة أعلى الفك وُجدت بها خلايا عصبية تشير إلى أن هذا الكائن كان يغمر فكيه في الماء ليتحسس وجود الفرائس البحرية القريبة، وكذلك ليتمكّن من شق طريقه في المياه المظلمة، لكن ظهرت بعض الاعتراضات على هذا النموذج تركّز معظمها حول الطريقة التي يمكن لكائن بهذا الهيكل الضخم أن يغوص أو يسبح أو يمشي بها.

في العام 2018 عاد نزار مرة أخرى إلى المنطقة نفسها، هذه المرة تمكّن من إيجاد 30 فقرة ذيلية وبعض الأجزاء الأخرى من السبينوصور، في تلك الفقرات كانت الأشواك العظمية العليا طويلة تصل إلى أكثر من 50 سنتيمترا، كان ذلك -بحد تعبير نزار في تصريح أرسله إلى “ميدان“- “مفاجئا إلى حدٍّ كبير، بحسب ذلك التركيب فإن هذا الديناصور قد فعل أشياء لم يفعلها ديناصور آخر”.

للتأكد من أن هذا الذيل يدعم نمط حياة مائيا عاشه هذا الديناصور قديما، قام الفريق البحثي بعمل محاكاة للكيفية التي يمكن بها لذيل كهذا أن يساعد السبينوصور على السباحة مقارنة بمجموعة أخرى من الديناصورات والأسماك والتمساح النيلي، هنا جاءت النتائج لتقول إن الذيل الخاص بالسبينوصور كان أكثر كفاءة تحت الماء من ديناصورات أخرى مثل الألوصور والسيليوفايسز، لكنه كان أقل كفاءة من التمساح والسلمندر.

حسنا، ما زال السبينوصور لغزا، لكنه أقل غموضا الآن بعد ظهور الحفريات المغربية، كان العلماء في هذا النطاق دائما ما يقولون إن الديناصورات غزت السماء واليابسة، لكنها لم تغز الماء أبدا، الآن نحن نعرف أن واحدا منها على الأقل تسيّد عالم المياه في مرحلة ما من تاريخ الديناصورات الذي امتد أكثر مئتي مليون سنة.

أخطر مكان على وجه الأرض

لكن ذلك الكشف الجديد -لا شك- يفتح الباب لتأمل نقطة أخرى مهمة، فتلك المنطقة من قارة أفريقيا زاخرة بالكثير من الكنوز القابعة في صحرائها، والتي يمكن أن تكشف الكثير من أسرار تاريخ الأرض،  يقول نزار: “لدى المغرب سجل أحفوري كامل إلى حدٍّ كبير لتاريخ الحياة على الأرض محفوظ في صخوره، وكذلك العديد من “الفصول” المهمة من السجل الجيولوجي، والتي يمكن الوصول إليها سطحيا دون حفر”.

منطقة “كمكم” تحديدا، وتسمى أيضا “حمادة”، تُمثِّل أعجوبة في هذا النطاق، لقد كانت يوما ما أخطر مكان على وجه الأرض، عاشت فيها أنواع متعددة من الديناصورات اللاحمة مثل الدلتادروميوس والكاركارودونتوصور والسبينوصور، وكانت جميعها أدوات قتل غاية في الشراسة سيطرت على محيطها، إلى جانب مجموعة أخرى من الديناصورات العاشبة الضخمة مثل الريبيكاصور، الديناصور الذي يشبه في طوله أن تضع 5 سيارات أمام بعضها بعضا، وبارتفاع نحو ثلاثة أشخاص كل منهم يقف على كتف الآخر!

لكن المشكلة الأساسية التي تواجه استكشاف تلك المنطقة هي أن معظم الحفريات الواردة منها مجزأة لقطع صغيرة، السبب في ذلك هو أنه خلال عقود عدة ازدهرت تجارة في تلك المناطق الجنوبية الشرقية من المغرب قد لا تتصور وجودها، فأغلب حفريات المغرب لا يحصل عليها العلماء بأنفسهم، بل عن طريق جامعين هواة يتخذون الحفر بحثا عن هياكل الكائنات القديمة مهنة، وهناك تُباع الحفريات وتُشترى، وتسافر إلى كل العالم، في سوق مفتوحة بقيمة تصل إلى 50 مليون دولار سنويا.

مَن يُقدِّمون تلك الخدمات غير محترفين في عملهم، وعادة ما يحطّمون غالبية الهياكل أثناء حفرهم، وعلى الرغم من ذلك فإن القوانين المغربية ليست واضحة كفاية تجاه الحد من تلك النشاطات، وما زالت الحفريات تُهرّب خارج البلاد، لكنها تخرج من المغرب بلا بيانات عن أماكن استخراجها والتي يعتبرها البائعون أسرار مهنتهم، ومن المعروف أن الصخور التي وُجدت فيها الحفرية مهمة أيضا للتعرف إلى الحفرية نفسها.

اعلان

حديقة المغرب الجوراسية

لهذا السبب، فإن نزار -كما أوضح في حديثه مع “ميدان“- كان قد عمل على بناء فهرس أو خارطة لمكونات تلك المنطقة من الحفريات، حيث قام، مع فريق دولي، بتتبع الحفريات المغربية الموزعة في مناطق متعددة من العالم، ثم قام بربطها بأماكنها المحددة وطبقاتها الصخرية التي استُخرجت منها ليصنع أشبه ما يكون بمشهد بيئي كامل يوضح كيف كانت الحياة على سطح المغرب في تلك الفترة، لم تكن صحراء جرداء كما تراها الآن، بل كانت أرضا خضراء تخترقها الأنهار. نُشر هذا المسح مؤخرا في دورية “زوكيز”.

رسم تخيلي لأنواع الديناصورات في منطقة “كمكم

وبحسب تلك النتائج، فإن دولة المغرب هي مثال استثنائي للتنوع في طبيعة الأحافير، حيث يتوقع هذا الفريق البحثي أن تمتد الاكتشافات خلال العقود القليلة القادمة لتشمل مجموعات متنوعة من الديناصورات الجديدة والأسماك شعاعية الزعانف والسلاحف والأركوصورات (منها الديناصورات الطائرة)، إلى جانب نطاق واسع من الكائنات اللا فقارية مثل النباتات والحشرات والصدفيات التي تستخرج من قرية “أم تكوت” التي تقع ضمن منطقة “كمكم”.

يقول نزار : “هذه المناطق هي مكان رائع جدا بالنسبة للبحث عن الحفريات، لكن يتطلب الأمر الكثير من الجهد للعثور عليها”، موضحا أن معظم الأحافير المهمة عُثِر عليها في أجزاء أخرى من العالم، مثل الأميركتين أو أوروبا أو الصين، لكن العديد من الكنوز ما زالت مدفونة في طبقات الصخور الصحراوية بشمال أفريقيا، وهي واحدة من أكثر مناطق العالم جفافا، يُضيف نزار في نهاية حديثه معنا: “لذا، نعم، إنه عمل صعب ومرهق، ولكنه أيضا مُجزٍ للغاية”.

في مصر، يعمل فريق احترافي من مركز المنصورة للحفريات الفقارية على استخراج الكنوز شمال الأفريقية هناك، وقام هذا الفريق قبل عدة أعوام باكتشاف ديناصور ضخم سُمّي “المنصوراصور” نسبة إلى جامعة المنصورة، وفي المغرب يفعل نزار إبراهيم، الباحث ذو الأصول المغربية الألمانية وهو حفيد ثالث رئيس حكومة في المغرب  “عبد الله إبراهيم”، الشيء نفسه. ونأمل مستقبلا أن يخرج لنا جيل أكثر عددا من الباحثين الشغوفين بخيرات أرض الصحراء الكبرى الواسعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *