المنبر الحر – بتصرف
منذ انطلاق الجيوش الإسلامية إلى القارة الأفريقية من بوابة مصر سنة 20هـ وطوال السبعين عاما التالية حتى عام 90هـ/709م لم تهدأ تلك الجيوش ولم تتوانَ عن نشر ثقافتها في هذه الأقطار الشمالية من أفريقيا.
ولما كانت مصر هي القاعدة الأمامية والأولى طوال عقود تمد الفاتحين في ليبيا وحتى تونس بالعتاد والرجال، وتُخطِّط للعمليات العسكرية البرية والبحرية، فقد جاء إنشاء عُقبة بن نافع لمدينة القيروان في تونس في منتصف القرن الأول الهجري بوصفها قاعدة وعاصمة أمامية للمسلمين في الشمال الأفريقي دافعا أقوى للتوغُّل في عمق الجزائر والمغرب الأقصى فضلا عن الجُزر الغربية للبحر المتوسط مثل صقلية وميورقة وما حولها.
وحين جاء موسى بن نصير واليا على شمال أفريقيا، من قِبَل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وأخيه عبد العزيز بن مروان والي مصر في عام 85هـ، واستطاع توحيد شمال أفريقيا حتى المحيط الأطلسي تحت السيادة الإسلامية التامة، وجاء القدر بهدية للمسلمين حين أدرك طارق بن زياد والي طنجة أن الفرصة سانحة لفتح الأندلس إثر خلافات واضطرابات داخلية في مملكة القوط الغربيين فيها، انطلقت جيوش المسلمين إلى الشمال.
فمنذ عام 92هـ/711م اتجه المسلمون لفتح هذه الجزيرة الغنّاء، ولم تمر خمس أو ست سنوات حتى وصلت قواتهم إلى جنوب فرنسا، وظل الوجود الإسلامي الحضاري عسكريا وثقافيا وماديا طوال ثمانية قرون في الأندلس، لكن اللافت أنه رغم حروب الاسترداد وهزيمة المسلمين وطردهم، وارتكاب أعظم المجازر بحقهم في محاكم التفتيش حتى الطرد النهائي سنة 1609م، فإن أثر الإسلام ولغته الأولى، لغة القرآن، لا يزالون حاضرين إلى يومنا هذا ومؤثّرة في اللغتين الإسبانية والبرتغالية وريثتَيْ الأندلس. فكيف فرضت العربية نفسها في الأندلس؟ وكيف أثّرت العربية في اللغتين الإسبانية والبرتغالية؟ وما أبرز الكلمات الباقية حتى اليوم في لغة الإسبان والبرتغاليين؟! ذلك ما سنراه في سطورنا التالية.
كيف توغلت العربية في الأندلس؟
يعترف المؤرخ والمستشرق البريطاني الشهير مونتغمري وات (1909-2006م) في كتابه القيّم “فضل الإسلام على الحضارة الغربية” أن “معظم أنحاء إسبانيا الإسلامية (إسبانيا والبرتغال اليوم) شهد تبلورا تدريجيا لثقافة عربية إسلامية مُتجانسة، وقد كان المسيحيون والمسلمون معا في البقاع الإسلامية على ما يبدو مُلمِّين باللغة العربية، وإن كانوا جميعا يستخدمون في أغراضهم اليومية لهجة رومانسية (الرومانية القديمة) دخلتها كلمات عربية، وقد تبنّى المسيحيون في ظلّ الحكم الإسلامي أوجه ثقافة الحكّام كافة إلا فيما يختص بالدين، لدرجة أنهم عُرفوا بالمستعربين (Mozarabs)، وثمة فقرة كُتبت عام 854م/240هـ يشكو فيها أسقف (مدينة) ألفار أن شباب الطائفة المسيحية يجتذبهم الشعر العربي لدرجة أنهم أغفلوا دراسة اللغة اللاتينية وأقبلوا على دراسة العربية”.
ويؤكد منتغمري وات أن اليهود في الأندلس أيضا تبنّوا الثقافة العربية في كل شيء إلا في الدين، وقد ساعد على انتشار هذه الثقافة العربية الإسبانية بعد شُروع المسيحيين في استعادة إسبانيا أمران مهمان؛ الأول يتمثَّل في أن بعض أمراء النصارى أقنعوا عددا من المستعربين (المسيحيين الناطقين بالعربية) بالهجرة من الجنوب والإقامة في المناطق غير المأهولة والمتنازع عليها.
والأمر الثاني أنه باتساع الرقعة التي يسيطر عليها نصارى الشمال من القشتاليين وغيرهم بحيث شملت مع الوقت مدنا إسلامية استمر الكثير من أهالي تلك المدن المسلمين في الإقامة بها تحت حكم الإسبان، وقد بقيت هذه المدن تحمل الطابع الحضاري الإسلامي أو العربي الإسباني بصفة أساسية[1].
ويبدو أن السبب القوي والتاريخي في استعارة الإسبانية والبرتغالية من العربية منذ قرون أن اللهجات القديمة لهذه اللغات كانت تعيش في حالة من التذبذب وعدم الاستقرار في وقت كانت اللغة العربية قد شاعت واستقرّت في الجزيرة الأندلسية، فعرفت تلك اللهجات الاستعارة من العربية في ظل قوة الحضارة الإسلامية وتقدُّمها في كل المجالات.
على أن السبب الأهم أيضا أن المورسكيين، الذين حافظوا على دينهم وعقيدتهم بين جنبات صدورهم وأبنائهم وبناتهم رغم القهر والتعذيب والقتل الممنهج ومحاكم التفتيش، كانوا سببا آخر في الحفاظ على اللغة العربية حتى آخر رمق لهم آنذاك، ورغم إجبارهم على نسيان العربية، ومحاربة تعلُّمها سرًّا وعلنًا، فقد أبدعوا لغة الألخميدو، أي اللغة الأعجمية، وهي لغة جمعت بين القشتالية والرومانية والعربية، وكُتبت بالحرف العربي، وكان من حُسن الحظ أن هؤلاء المورسكيين المستضعفين استطاعوا كتابة بعض المؤلفات بهذه اللغة المستحدثة، للحفاظ على دينهم وعقيدتهم مع عدم نسيان العربية.
ويؤكد العلامة محمد عبد الله عنان في كتابه الماتع “دولة الإسلام في الأندلس” أنه اطّلع أثناء إقامته في إسبانيا وفي مدريد تحديدا على كثير من الكتب والوثائق الألخميادية، لا سيما في المكتبة الوطنية التي تحتفظ منها بطائفة كبيرة، ومنها كتب صلوات وأدعية وفقه، ومعظمها يفتتح بالبسملة والصلاة على النبي، وقد لفت نظرنا بالأخص مخطوط منها، وهو كتاب في الصلاة والأدعية، تدل عبارته الختامية على أن اللغة العربية كانت لا تزال بالرغم من تحريمها ومطاردتها تُدرس وتُكتب سرًّا حتى أواخر القرن السادس عشر، وإليك نص العبارة المذكورة:
“أفرغ للعبد من الله تعالى المعترف بذنبه الراجي غفران ذنبه، علي بن محمد بن محمد شُكار من بلاد مزماذيانتى اليوم الآخر من جمادى الثاني يوما أربعة ولعشرين من شهر ماروس من يوم من ثلث منه عام ثمانية وتسعين تسع مائة من الحجرة النبي صلى الله عليه وسلم. ولعددا من المسيح منه عام وتسع وثمانين ألف وخمسمائة آمين آمين يا رب العالمين. تمت بحمد الله وحسن عونه وكان الفراغة ثم صلاة العصر”[2].
ولا شك أن هذه الأسباب مجتمعة عبر عقود وقرون متطاولة، وحتى بعد هزيمة المسلمين عسكريا في الأندلس، كانت الباعث على بقاء أثر العروبة والإسلام في الأندلس رغما عن الإسبان وغيرهم.
كلمات عربية باقية إلى يومنا هذا
يلحظ المؤرخ البريطاني جون براند ترند في بحثه ضمن كتاب “تراث الإسلام” أن الكلمات العربية الدخيلة في الإسبانية والبرتغالية أكثرها من الأسماء من مختلف أنواع الأشياء والعواطف والرغبات التي كان بعضها وما زال يوجد له أسماء عربية في الإسبانية الحالية مثل، طاحونة (tahona)، فندق (fonda)، تعريف أو تعريفة (tarifa)، وقد تلاحظ أن الكلمة العربية تأخذها اللغة الإسبانية هي وأداة التعريف المتصلة بها، ومثال ذلك؛ الحاجة (la alhaja)، الرز أو الأرز (el arroz). وقد كتب المبشر الإسباني بدرو دي الكالا الذي نشر في عام 1505م بعد سنوات قليلة من سقوط غرناطة كتابين يعالجان موضوع اللغة العربية الدارجة في إسبانية غرناطة آنذاك، فكانت كلمة “أدار” (a-dar) يقصد بها الدار المعروفة في العربية، وكلمة “أجمس” (a-xems) يقصد بها الشمس، وكلمة “أسُلطان” (a-coltan) يقصد بها السلطان وغير ذلك[3].
ونجد كذلك كلمة “azotea” وتعني السطيحة، وهي تصغير سطح وهو السقف المسطح، وكلمة “alcoba” الكوبة أي القبة، وهي غرفة النوم عند الإسبان وكانت تُستخدم في بعض البيئات العربية بالمدلول نفسه، وكلمة “anaguel” أي الناكل وعربيتها النقال، وهو الحامل، وكلمة “almohada” وعربيتها المخدة وهي المعنى نفسه في الإسبانية، و”adoquin” الدُّكين وهو تصغير الدكان، ومعناها بالإسبانيه نفسه أو بمعنى المقعد الحجري، و”alcanzar” الكنزار وتعني بالعربية الكنز، وبالإسبانية تعني حيازة الشيء والظفر به[4]. ويظهر لفظ المسجد “mezquito” المكسيدو في عدة تراكيب، كما أن لفظ السوق وإن كان يُعرف رسميا بالمركادو (elmercado) فهو يُعرف في الريف بهذا الشكل “ال ازوك” (el ozogne) [5].
وقد تدركك الدهشة إذا علمت أن الناطقين بالإسبانية ما زالوا يستعملون الجملة العربية “إن شاء الله” حتى يومنا هذا، وهو التفسير الأوحد للتعبير الإسباني المعروف “ojala” الذي كانت تهجئته “oxala” ثم صار يلفظ حرف “x” فيه كما يُلفظ حرف الشين (sh). وإذا كانت العربية قد عرفت طريقها إلى الإسبانية، فقد توغلت أيضا في البرتغالية، وتوجد في البرتغالية مئات الكلمات من أصل عربي.
مثل كلمة “alcatila” أي القطيفة، وتعني بالبرتغالية السجادة المخمل، و”alfandega” بالعربية الفندق، وتعني بالبرتغالية الجُمرك، والفندق بمعناه العربي القديم يعني مكان استقبال التجار في الثغور والموانئ والمدن، فهو أيضا وثيق الصلة بالثقافة والدلالة العربية القديمة، و”azinhaga” أي الزنقة بالعربية، وبالبرتغالية الممشى الضيق، ولا تزال الزنقة تعني المدلول ذاته، وكلمة “arratel” وتعني الرطل بالعربية والبرتغالية[6].
وإذا كانت الكلمات العربية قد بقيت في أسماء الأشياء والأعلام والمصطلحات، فقد بقيت كذلك على كثير من أسماء البلدان والمواضع والأنهار والأودية حتى يومنا هذا في إسبانيا والبرتغال اسما ودلالة، مثل “trafalgar” أي طرف الغار، و”alcira” أي الجزيرة، وفي البرتغالية “alberca” أي البركة، و”acequia” أي الساقية[7].
تلك بعض من تأثيرات الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس بدولتَيْها إسبانيا والبرتغال إلى يومنا هذا، لقد تمكَّنت العربية من التوغُّل في هذه اللغات، وأثبتت أنها لغة قادرة على التعايش اللغوي والثقافي، وعلى إلهام اللغات الأخرى، فلم تبخل على نظيراتها بالمصطلحات والأسماء والكلمات التي احتاجت إليها هذه اللغات التي بينما كانت تتطور من لهجات محلية في العصور الوسطى كانت اللغة العربية ولا تزال تتمتع بالكمال وقوة التراكيب ولا نهائية الاشتقاقات!